مركز المجرة النفّاث…ظاهرة غريبة من مجرّة بعيدة

0

في كانون الثاني عام 2005، لوحظ وجود ومضة ساطعة في مركز المجرة التي تحمل اسم ARP 299-B، وهي في مرحلة اندماج مع مجرة أخرى، وتقع على بعد 150 مليون سنة ضوئية عن الأرض. في البداية كان الظن أن هذه الومضة كانت عبارة عن انفجار نجمي، سوبرنوفا، لكن بعد عشرة سنوات من المراقبة بواسطة أمواج متعددة الترددات، تم التأكد أن هذا الأمر شيء مختلف تماماً.

ذيل نفاث في مركز المجرة:

خلال عقد من السنين، حتى عام 2015، شاهد فريق عالمي من علماء الفضاء أن هذه المنطقة المضيئة كانت تتمدد وتتوسع، واستنتجوا أنها عبارة عن ذيل من مواد ينفثها ثقب أسود هائل الحجم يتوضع في مركز المجرة تلك، وذلك بعد أن قام بتمزيق نجم. بعد شهور من تفحص المعطيات، نٌشِرَت النتائج هذا الشهر في مجلة Science.

وفقاً للنماذج النظرية، وخلال ظاهرة تدعى التدمير المدّي (عندما يقوم ثقب أسود بتدمير نجم، قسم من مادة النجم ينفث في الفضاء، بينما القسم الآخر يتم امتصاصه من قبل الثقب الأسود الهائل)، يقوم الامتصاص المفاجىء للمادة بتوليد ومضة ساطعة يمكن رؤيتها بواسطة أشعة غاما وأشعة X والضوء المرئي، ويتبعها انبعاثات على شكل ذيل نفّاث عملاق من مواد تسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء.

 

 

“حتى تاريخه تمكنا فقط من ملاحظة القليل من هذه الظواهر التي تقوم بها الثقوب السوداء، ولكن لم نعرف أبداً حتى الآن أنه من الممكن أن يتشكل ويتطور ذيل من مواد نفاثة مباشرة من جذر هذه الثقوب.” – ميغيل بيريس تورّيس، باحث في معهد الأندلس لفيزياء الفضاء، اسبانيا.

 

إقرأ أيضاً على أعجمي: ما هي الثقوب السوداء ؟

 

وميض ناتج عن ثقب أسود في مركز المجرة:

ومع مرور الوقت، يحافظ الجسم الجديد على وميضه الذي يمكن رؤيته عبر الأمواج تحت الحمراء، وليس عبر أطوال أمواج الضوء المرئي أو أشعة X . ويعود ذلك غالباً إلى أن الغبار الكثيف الموجود في مركز المجرة قد امتص أشعة X والضوء المرئي ونشره على شكل أشعة تحت الحمراء.

قام باحثون من ناسا باستخدام التلسكوب الشمالي NOT  المتوضع في جزر الكناري والتلسكوب المتخصص سبيتزر لمراقبة هذه الظاهرة التي تحدث ف مركز المجرة بالأشعة تحت الحمراء، وقاموا بتنفيذ عمليات مراقبة مستمرة بواسطة تلسكوبات رادوية متعددة، من بينها تلسكوب VLBI الأوروبي وتلسكوب VLBA  الذي يستخدم مستشعرات تبعد عن بعضها كيلومترات ويحقق نتيجة مشابهة لتلسكوب يبلغ قطره قطرَ الأرض.

 

ذيل نفاث في مركز المجرة:

 

وبفضل هذه العملية تمكن الباحثون من رؤية كيفية توسع الوميض الابتدائي في اتجاه واحد، كما لو أن محركاً نفّاثاً يقوم بدفعه بسرعة تصل إلى 75  ألف كيلومتر في الثانية، أي ربع سرعة الضوء. وهكذا تمكنوا من استبعاد سيناريوهات محتملة أخرى لهذه الظاهرة، كانفجار نجم عملاق (سوبرنوفا)، وأكدوا أن السيناريو الأكثر احتمالاً هو: قام الثقب الأسود العملاق في مركز مجرة ARP 299-B الذي تبلغ كتلته 20 مليون مرة كتلة الشمس بتمزيق نجم بكتلة تساوي 2 إلى 6 مرات كتلة الشمس.

معظم المجرات تمتلك في مركزها ثقباً أسوداً هائلاً قد تصل كتلته إلى مليارات المرات من كتلة الشمس، لكن الثقوب السوداء لا تسمح حتى للضوء من الإفلات من قبضتها، فكيف يمكننا رؤيتها؟ إن مثل هذه الظواهر (تحطّم نجم جراء وجود ثقب أسود) تمكننا من معرفة مكان الثقوب السوداء. فالمصير الأسود لهذا النجم مكننا من تحديد مكان الثقب الأسود الهائل في مركز مجرة ARP 299-B.

 

ذيل نفاث في مركز المجرة:

 

المرجع المكتبي

Mattila, M. Pérez-Torres et al. “A dust-enshrouded tidal disruption event with a resolved radio jet in a galaxy merger”. Science 2018.

ترجم عن مقال في موقع SINC.

 

لمحة عن الثقب الأسود:

الثقب الأسود هو منطقة موجودة في الزمكان (الفضاء بأبعاده الأربعة، وهي الأبعاد الثلاثة بالإضافة إلى الزمن) تتميز بجاذبية قوية جداً بحيث لا يمكن لأي شيء – ولا حتى الجسيمات أو موجات الإشعاع الكهرومغناطيسي مثل الضوء – الإفلات منها. تتنبأ النظرية النسبية العامة بأنه يمكن لكتلة مضغوطة بقدر معين أن تشوه الزمكان لتشكيل الثقب الأسود.

يُطلق على حدود المنطقة التي لا يُمكن الهروب منها اسم أفق الحدث. وعلى الرغم من أن عبور حدود أفق الحدث له تأثيرات هائلة على مصير وظروف أي جسم يعبُره، إلا أنه لا تظهر أي خصائص يُمكن ملاحظتها لهذه المنطقة. يعمل الثقب الأسود بصفته جسما أسودا مثاليا، لأنه لا يعكس أي ضوء.

علاوة على ذلك، تتنبأ نظرية المجال الكمي في الزمكان المنحني بإنبعاث إشعاع هوكينج آفاق الحدث، بنفس الطيف الذي يتسم به الجسم الأسود لدرجة حرارة تتناسب عكسياً مع كتلته. درجة الحرارة هذه على حدود جزء من مليار من الكلفن للثقوب السوداء من الكتلة النجمية، مما يعني استحالة ملاحظتها.

أشار كل من جون ميشيل وبيير سيمون لابلاس إلى وجود أجسام تمتلك حقول جاذبية قوية بحيث لا يمكن للضوء أن يهرب منها في القرن الثامن عشر. عثر كارل شوارزشيلد على أول حل رياضي حديث للنسبية العامة التي تُميز الثقب الأسود في عام 1916، إلا أن تفسير الحل الرياضي شَكّل منطقة فضاء لا يمكن أن يفلت منها أي شيء كان قد نشر لأول مرة من قِبل ديفيد فينكلشتاين في عام 1958.

كانت الثقوب السوداء تعتبر مجرد خيال وفضول لدى علماء الرياضيات لفترة طويلة. لكن خلال ستينيات القرن العشرين، أظهر العمل النظري تنبؤ النسبية العامة بالثقوب. أثار اكتشاف نجوم نيوترونية بواسطة جوسلين بيل بورنيل في عام 1967 الاهتمام بالأجسام المدمجة المنهارة بالجاذبية بصفتها حقيقة فيزيائية فلكية ممكنة.

يُعتقد أن الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية تتشكل عند انهيار النجوم الضخمة جدًا في نهاية دورة حياتها. بعد أن يتشكل الثقب الأسود، يمكن أن يستمر في النمو عن طريق امتصاص الكتلة من محيطه.

وذلك عن طريق امتصاص النجوم الأخرى والاندماج مع الثقوب السوداء الأخرى، الأمر الذي قد يؤدي إلى تشكل الثقوب السوداء الهائلة والتي تحمل كتلة تعادل ملايين الكتل الشمسية (M ☉). هناك إجماع عام على وجود ثقوب سوداء هائلة في مراكز معظم المجرات.

على الرغم من أن محتواه غير مرئي، يمكن استنتاج وجود ثقب أسود من خلال تأثيره على المواد الأخرى والإشعاع الكهرومغناطيسي مثل الضوء المرئي. يمكن للمادة التي تسقط في الثقب الأسود أن تُشكّل قرص تراكم خارجي يتم تسخينه عن طريق الاحتكاك، مما يؤدي إلى تشكيل بعضٍ من أشد الأجسام بريقا في الكون. إذا كان هناك نجوم أخرى تدور حول ثقب أسود، فيمكن استخدام كل من مداراتها وكتلتها لتحديد كتلة الثقب الأسود وموقعه. يمكن استخدام هذه الملاحظات لاستبعاد البدائل المحتملة مثل النجوم النيوترونية.

وبهذه الطريقة، تحقق علماء الفلك من العديد من حالات توقعات وجود الثقب الأسود النجمي ضمن الأنظمة الثنائية، وأثبتوا أن مصدر الراديو المعروف بٱسم الرامي A، في قلب مجرة درب التبانة، يحتوي على ثقب أسود هائل يحمل كتلة تقارب 4.3 مليون كتلة شمسية.

في 11 فبراير 2016، أعلن تحالف مرصد ليغو عن أول اكتشاف مباشر لموجات الجاذبية، والتي تعكس فكرة العثور على لحظة اندماج الثقوب السوداء. اعتبارًا من ديسمبر 2018، عُثر على إحدى عشرة موجة من موجات الجاذبية التي نشأت من اندماج عشرة ثقوب سوداء وموجة جاذبية واحدة ناتجة عن اندماج نجم نيوتروني ثنائي.

في 10 أبريل 2019، تم نشر أول صورة على الإطلاق لثقب أسود وما في جواره، وذلك في أعقاب القراءات التي حصل عليها مقراب أفق الحدث في عام 2017 والمتعلقة بالثقب الأسود الهائل في مركز المجرة مسييه 87.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.