حادث فيراري المروع عام 1957 الذي أنهى سباق الألف ميل Mille Miglia
انتهى السباق الإيطالي الشهير الذي يمتد لـ 1000 ميلاً بحادث مأساوي بعد أن خرجت سيارة فيراري عن السيطرة وقتلت تسعة متفرجين.
في عام 1957، حلت المأساة في سباق الألف ميل “Mille Miglia”، وهو سباق سيارات إيطالي يمتد لمسافة تقارب الـ 1000 ميلاً والذي كان يُعد عرضًا لأسرع السيارات في العالم وأكثر السائقين جرأة. مع بقاء أميال قليلة فقط في هذا السباق الشاق الذي استمر لـ 11 ساعة، انفجرت إحدى إطارات سيارة فيراري التي كان يقودها السائق الإسباني الوسيم “ألفونسو دي بورتاغو”.
في حادث فيراري المروع خرجت السيارة المتضررة عن نطاق السيطرة وانحرفت عن الطريق، مما أدى إلى وفاة “دي بورتاغو” والسائق المساعد “إدموند نيلسون” على الفور. وبشكل مأساوي قتل تسعة متفرجين أيضاً، من بينهم خمسة أطفال. شعر الجمهور الإيطالي بالغضب وطالب بالعدالة لعائلات الضحايا. لقد وجدوا في “إنزو فيراري”، العبقري المثير للجدل وراء فريق فيراري للسباقات، المجرم الحقيقي الذي يتحمل اللوم على هذا الحادث.
لم يُجر سباق “Mille Miglia” مرة أخرى، وتمت محاكمة “إنزو فيراري” بتهمة القتل غير العمد، ختاماً لواحدة من أصعب السنوات في حياة أيقونة السيارات.
قبل السباق، هيمن الموت والشك على فيراري
اشتهر “إنزو فيراري” بسعيه الجاد لتحقيق النصر. بدأ مسيرته المهنية في العشرينيات من القرن الماضي كسائق سيارات سباق لفريق ألفا روميو. لكنه وجد هدفه الحقيقي خارج المضمار، أولاً كمدير لفرق السباق في الثلاثينات، ثم كصانع سيارات صاحب رؤية في الأربعينيات. كان حبّه الأول هو السباق، ولم يبدأ ببيع السيارات الرياضية الفاخرة إلا لتمويل طموحاته في مجال السباقات.
في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، برزت شركة فيراري كلاعب رئيسي في سباق السيارات المحترفة، سواء في فئة الفورمولا 1 ذات المقعد الواحد أو في سباقات الطرق المفتوحة مثل سباق الألف ميل “Mille Miglia”. لكن عام 1956 كان عاماً مليئاً بالانتصارات والمآسي بالنسبة لـ “إنزو” وشركته.
في إبريل من عام 1956، انتصر فريق فيراري في سباق الألف ميل، حيث حقق المراكز الأربعة الأولى. وكان البطل الكبير هو “أوجينيو كاستيلوتي”، واحد من ألمع النجوم الشبان في فريق فيراري.
ولكن لم يمر أقل من شهرين، حتى حلت مأساة في حياة “إنزو” وزوجته “لورا”. فقد توفي ابنهما المحبوب، “دينو” البالغ من العمر 24 عاماً، بعد صراع دام لسنوات مع ضمور العضلات. لم يجد العزاء بوفاة ابنه في أي شيء وفكر لفترة وجيزة في ترك فيراري. ولكن عندما نجح أخيراً بالعودة إلى العمل، تعرض لضربة مؤلمة ثانية، حيثُ لقي سائقه النجم “كاستيلوتي” مصرعه في حادث تدريبي على حلبة اختبار فيراري في مودينا.
جاءت وفاة “كاستيلوتي” قبل أسابيع قليلة من نسخة عام 1957 من سباق الألف ميل. ولأول مرة في حياته، أعرب “إنزو فيراري” علناً عن شكوكه حيال تكريس حياته لمثل هذه الرياضة الخطيرة.
أخطر رياضة في العالم
كان لدى “فيرّاري” كل الأسباب للتشكيك في سلوكيات سباق السّيارات. فقبل عامين فقط، في عام 1955، هز عالم السباقات أفظع حادث تحطم مميت في تاريخه.
خلال سباق “لو مان” الذي استمر لمدة 24 ساعة في فرنسا، اصطدمت سيارة مرسيدس بنز تسير بسرعة 150 ميلاً في الساعة بسيارة أخرى وانطلقت في الهواء صوب المدرج الكبير. الانفجار والحطام المشتعل تسببا بمقتل 82 متفرجاً، حصيلة وفاة لا يمكن تصورها.
لم تكن المآسي أمراً غريباً على سباق الالف ميل. ففي عام 1938، وقع حادث مروع خارج بولونيا. حيث انطلقت سيارة رياضية مسرعة يقودها اثنان من الهواة من فوق خط ترام، ما أدى إلى مقتل 10 المتفرجين، بينهم سبعة أطفال. فقام المسؤولون بإلغاء سباق الالف ميل عام 1939، ولكن شعبية السباق كانت شديدة لدرجة أنهم أعادوا تفعيله في عام 1940.
الشيء الذي جعل سباق “Mille Miglia” مثيراً للغاية هو ما جعل جميع سباقات الطرق العامة في تلك الحقبة خطيرة للغاية. حيث اصطفت حشود من المتفرجين، بما في ذلك العائلات مع الأطفال، على طول الطريق لمشاهدة أسرع السيارات الرياضية في العالم عن قرب وبشكل شخصي. لقد قاد السائقون سياراتهم بأقصى الحدود، وهم يعلمون جيداً أن أقل خطأ قد يؤدي إلى كارثة.
وصف “ستيرلينغ موس”، سائق سيارات سباق بريطاني الذي فاز بسباق الالف ميل في عام 1955، السباق لشبكة CNN في عام 2012. “تخيل الصعود على منحدر كبير نحو قرية والسير بسرعة 185 ميلاً في الساعة دون معرفة الاتجاه الذي يقودك إليه الطريق، قال موس. “لقد كان السباق الوحيد الذي أرعبني فعلاً”.
“ألفونسو دي بورتاغو”، زير نساء عالمي و”سائق نبيل”
الرجل الذي كان وراء عجلة الفيرّاري في الحادث المأساوي في ميل ميليا عام 1957 لم يكن من المفترض أن يقود السيارة في ذلك اليوم. قام “فيرّاري” بدعوة “ألفونسو دي بورتاغو” للمشاركة في السباق بعدما اعتزل “سيزار بيرديسا” – أحد سائقي فيرّاري الموهوبين – سباق السيارات بالكامل بعد وفاة “كاستيلوتي”.
كان “دي بورتاغو” سائقاً ممتازاً، لكن السباق لم يكن شغفه الوحيد. كان “الماركيز دي بورتاغو”، وهو ابن لنبيل إسباني وأمريكية ثرية، يتحدث أربع لغات ويمارس مجموعة واسعة من الألعاب الرياضية، بدءاً من لعبة Jai Alai، إلى السباحة، إلى التزلج الجماعي الاحترافي Bobsleigh.
“كان “دي بورتاغو” هو السائق النبيل المثالي”، يقول “دال مونتي”. “كان زير نساء، ورجل لديه كل ما يرغب فيه من الحياة. كان قادراً على شراء سيارات فاخرة والقيادة بسرعة”.
“دي بورتاغو” وصديقه الأمريكي “إدموند نيلسون” كانا قد حاولا مرتين من قبل المشاركة في “ميل ميليا”، ولكن الحظ السيء كان يطاردهما في كل مرة. ففي أول مشاركة لهما، اشتعلت النيران في سيارتهما بعد ساعات قليلة فقط من بداية السباق. وفي المحاولة الثانية، اصطدما بعلامة ميل خلال الدقائق الأولى.
لهذا السبب، لم يكن لدى “دي بورتاغو” أو “نيلسون” معرفة بالمسار الكامل لمضمار “ميل ميليا”، مما زاد من خطورة السباق في عام 1957. ولكن “دي بورتاغو”، الذي قاد طائرة تحت جسر لندن بسبب رهان، أشبع الخطر بالمغامرة.
“إن عدم معرفة المستقبل هو الذي يجذب المغامر أكثر”، قال “دي بورتاغو”. “قليلة هي المهن… التي تتمتع بأقل قدر من الأمان وأكثر قدر من عدم اليقين حيال المستقبل من سباق السّيارات. يمكن للمرء أن يصل إلى القمة في ثانية واحدة، ولكن كل ما يلزمه هو خطأ صغير جداً، وسيجد نفسه ميتاً بشكل محرج جداً في اللحظة التالية”.
آخر سباقات الألف ميل
في الساعة 3:30 مساءً يوم 12 مايو 1957، كان “دي بورتاغو” أو “نيلسون” على بعد 21 ميلاً من خط النهاية عندما دخلا ممراً مستقيماً بالقرب من قرية كافريانا بشمال إيطاليا. على الطريق وبسرعة 155 ميلاً في الساعة، أحدث شيء ما ثقباً في إطار الفيراري الأمامي الأيسر، ربما كانت إحدى علامات الطريق العاكسة المعروفة باسم “عيون القط”، والتي تضيء في الليل.
لم يكن لدى “دي بورتاغو” فرصة لتصحيح اتجاه السيارة المسرعة، التي اصطدمت بالرصيف الأيسر وانقلبت بشدة في الهواء. ولسخرية القدر، أن المتفرجين الذين كانوا يقفون على مسافة أبعد من المسار – وهي المسافة التي يُفترض أن تكون الأكثر أماناً – هم الذين قُتلوا أو أصيبوا بجروح خطيرة بسبب سيارة الفيرّاري الطائرة.
تسعة متفرجين لقوا حتفهم في الحادث بالإضافة إلى السائقين “دي بورتاغو” و “نيلسون”. أصغر المتفرجين كان الطفل “فالنتينو ريجون”، البالغ من العمر 6 سنوات، والذي قتلت أيضًا شقيقته “فيرجينيا” البالغة من العمر 9 سنوات.
وصلت أخبار حادث تحطم “دي بورتاغو” إلى خط النهاية في بريشيا بعد فترة طويلة من تتويج الفائزين. احتل “بييرو تاروفي”، الذي كان يقود سيارة فيرّاري بمفرده، المركز الأول في السباق الأخير في مسيرته الطويلة. بشكل عام، سيطر فريق “Scuderia Ferrari” على اليوم، حيث حقق سائقوه 12 من أصل 16 أسرع زمن. ولكن في غضون ساعات، لم يكن لأي من تلك الانتصارات أي أهمية.
يقول “دال مونتي”: “عند تقرأ الصحف الإيطالية في ذلك اليوم، لا أحد يتحدث عن فوز “تاروفي” بالسباق الأخير في مسيرته”. “كل ما يتحدثون عنه هو المأساة والغضب الشعبي.”
تم إلغاء جميع النسخ المستقبلية لسباق “Mille Miglia” على الفور، بالإضافة إلى جميع سباقات الطرق العامة الأخرى في إيطاليا. وبينما كانت العائلات تنعى أحبائها المفقودين، ركزت الصحافة الإيطالية اللوم بشكل قاطع على رجل واحد: “إنزو فيراري”.
في أوسيرفاتوري رومانا Osservatore Romana، الصحيفة الرسمية للفاتيكان، قارن كتّاب التحرير في مقالاتهم “فيراري” بـ “زحل”، التيتان الأسطوري الذي التهم أبناءه ليظل حياً. وتم تصوير “فيراري” كطاغية قاسٍ يتسم بالمنافسة الشرسة، والذي يضحي بأي شيء من أجل الفوز، بما في ذلك حياة الأبرياء.
يقول “دال مونتي” إن الواقع كان عكس ذلك تماماً.
“ربما كان الحادث الذي وقع في ميل ميليا هو أسوأ شيء حدث، لـ “إنزو” على الإطلاق على الصعيد الشخصي والإنساني”، يقول “دال مونتي”. “لم يكن الموت في سباقات السيارات أمراً جديداً للأسف، لكنه كان مختلفاً هذه المرة. لم يكونوا متفرجين فحسب، بل كان من بينهم خمسة أطفال”.
سرعان ما وجد “فيرّاري” نفسه يواجه شيئاً أسوأ بكثير من الضغوط السيئة أو تعذيب الضمير. حيث تم توجيه 11 تهمة جنائية بحقه تتعلق بجريمة القتل الغير العمد.
“فيراري” في المحاكمة
في البداية، بدا الوضع قاتماً بالنسبة لـ “فيرّاري”. أصدرت لجنة من الخبراء شكّلتها النيابة تقريراً قاسياً. واتهمته بالقيام بعمل متهور عند تجهيز سياراته للسباق بإطارات غير مناسبة للمهمة.
يقول “دال مونتي”، الذي كتب كتاباً عن محاكمة “إنزو” في قضية القتل غير العمد، إن تاريخ صناعة السيارات بأكمله كان من الممكن أن يكون مختلفاً إذا ثبتت إدانة فيراري.
يقول: “إذا ثبت أن “إنزو” مذنب، فسيذهب إلى السجن”. “إذا ذهب إلى السجن، سيتم إغلاق مصنعه. إذا أُغلق مصنعه، فلن يكون هناك فيراري اليوم. لا أعتقد أنه من المبالغة القول إنه لو تمت إدانته لكان التاريخ قد كتب بطريقة مختلفة. ليس فقط تاريخ فيراري، بل تاريخ السيارات وبالتأكيد تاريخ سباق السيارات”.
وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على المحاكمة، نجح “فيراري” في إقناع القاضي بتشكيل لجنة جديدة تتألف من مهندسي سيارات فعليين. وفي تقرير جديد، ألقى المهندسون اللوم في الحادث على علامات الطريق العاكسة “عين القطة”، وليس إهمال “فيرّاري”. وتمت تبرئته من جميع التهم.
طوال أربع سنوات من المحكمة، لم يتوقف “فيرّاري” عن العمل. في الواقع، بعد أسابيع فقط من حادث سباق “ميل ميليا”، كان من المقرر لفريق “سكوديريا فيراري” المشاركة في بطولة العالم للسيارات الرياضية لعام 1957. حتى أنه قدم التماساً إلى القاضي في محاكمة القتل غير العمد للإفراج عن سيارتي سباق غير متضررتين تم احتجازهما كدليل. الفريق كان في حاجة إليهما.
يقول “دال مونتي”: “إن هذا يظهر لك أن الحياة لم تتوقف مع الحادث. “فيرّاري” الرجل وأيضاً الشركة كان عليهما مواصلة السباق”.