أولجا أميرة كييف: القديسة التي لا تريد العبث معها
بالرغم من أن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية قد منحتا الأميرة أولجا لقب “قديسة”، فإن هناك الكثير من الأحداث التاريخية التي تُثبت أن أميرة البلاد الممتدة من بحر البلطيق شمالاً إلى البحر الأسود جنوباً لم تكن ملاكاً كما صورتها رسومات الكنائس.
صحيح أن أولجا أسهمت في نشر المسيحية في أوروبا الشرقية، إلا أن نيران الانتقام التي اشتعلت في قلبها بسبب خسارة حبيبها وزوجها أحرقت -حرفياً- شعباً بأكمله.
ولدت في وقت ما خلال عام 903 ميلادي في بيسكوف، روسيا، ويقدم التاريخ عن أولغا لمحة عن معظم حياتها – بما في ذلك زواجها من الأمير إيغور أمير كييف، وميلاد ابنها. ومع وفاة زوجها، تصبح أولغا أكثر من زوجة وأم، ودون التضحية بأي من هذه الواجبات، تصبح محط الاهتمام.
القديسة أولغا أحرقت قبيلة كاملة انتقاماً لزوجها:
أحبت أولغا زوجها الأمير إيغور حباً شديداً، إذ زُفت إليه وهي لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها، وكان إيغور وريث عرش “كييف روس”، وهي مملكة ضمت فيما مضى روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا الحديثة، وتكونت من اتحاد القبائل الذين سكنوا تلك المناطق، وتمكن أسلاف إيغور من إخضاعهم وضمهم تحت لواء العاصمة “كييف”.
لكن ولسوء حظ إيغور لم يكن الأمير الشاب مرهوب الجانب مثل أسلافه، فقد واجه تمرداً غير مسبوق من قبيلة الدريفليون، التي رفضت دفع الجزية لكييف كما جرت العادة قبل تولي إيغور الحكم.
وبالرغم من تجاهل إيغور للأمر لسنوات، فإنه قرر أخيراً التوجه بجيشه نحو عاصمة الدريفليون “إيسكوروستن” (الآن كوروستين في شمال أوكرانيا)، ليجبرهم على دفع الجزية، وكان ذلك في عام 945. ووفقاً لما ورد في موقع History Answers، فقد نصب الدريفليون كميناً للملك وقتلوه بأسلوب شنيع للغاية.
إذ يقول المؤرخ البيزنطي ليو ذا ديكون، إن الدريفليون قاموا بثني شجرتين من خشب البتولا على قدمي إيغور، وربطوهما بساقيه، ثم تركوا الشجرتين تستقيمان مرة أخرى، ما أدى إلى تمزيق جسد الملك. وبعد وفاة زوجها اعتلت أولغا عرش كييف كوصية على ابنها سفياتوسلاف البالغ من العمر ثلاث سنوات.
أما الدريفليون الذين تحرروا للتو من سلطة “كييف روس” بقتلهم للملك، فقد قرروا أن يستغلوا انتصارهم ذاك لحكم المملكة بأسرها، وذلك عن طريق تزويج قائدهم “مال” من أولغا زوجة الملك الراحل، ظناً منهم أنها مجرد امرأة يسهل التحكم فيها، لم يكن أولئك المساكين المغترين بنصرهم على علم بالمصير الذي ينتظرهم.
أمرت بدفنهم أحياء:
أرسل الدريفليون 20 رجل من نبلاء قبيلتهم إلى كييف لإقناع أولغا بالزواج من أميرهم، ولم تُبد الأرملة ممانعة للفكرة، وطلبت من النبلاء العودة والانتظار في قواربهم ليدخلوا المدينة مجدداً في اليوم التالي بموكب مهيب، إذ ستأمر رجالها بحملهم مع قواربهم إلى القصر، ليدرك أهل كييف مكانتهم العالية ولكي لا يمانعوا من زواج أولغا “بقاتل ملكهم السابق”.
لم يساور النبلاء أي شك حول نوايا أولجا، وعادوا بالفعل إلى قواربهم، معتقدين أن المهمة التي أرسلوا بها كانت أسهل بكثير مما توقعوا، وناموا ملء جفونهم.
وفي صباح اليوم التالي حُمل النبلاء بقواربهم من قبل جنود أولجا، لكنهم لم يتوجهوا إلى القصر، إنما إلى قبور حُفرت لهم في الليلة السابقة ليدفنوا هناك على قيد الحياة تحت أنظار الأميرة.
أحرقت وفد جديد من النبلاء الدريفليين أحياء في حمامها:
لم تكتف أولجا بذلك، ولم يطفئ دفن 20 من الدريفليين أحياء نار غضبها، فبعثت رسالة إلى الأمير “مال” تخبره فيها أنها موافقة على طلبه، لكن عليه أن يرسل لخطبتها أولاً خيرة جنوده ورجال قبيلته في موكب مهيب، تقنع به أهالي كييف بالخطوة التي ستتخذها، وطمأنته أن نبلاءه الـ20 السابقين في ضيافتها.
وهذا ما حصل، حيث بعث الدريفليون خيرة رجالهم وجنودهم لخطبة الملكة، التي أمرت بتوجيههم إلى الحمام للاغتسال أولاً قبل مقابلتها. وبينما كان وفد الأمير “مال” يستحمّ، أغلقت أبواب الحمام وأضرمت فيه النيران ليحترق كل من فيه.
استخدمت الطيور كوسيلة لتحقيق انتقامها:
فبعد حرق النبلاء الدريفليين أحياء في حمامها توجهت بنفسها مع جنودها إلى العاصمة الدريفلية إيسكوروستن، وبعثت رسالة تخبر فيها الأمير أنها ستصل قريباً، وطلبت منه تجهيز مأدبة جنازة ليتاح لها أن تحزن على زوجها الراحل قبل الزواج من جديد.
استقبل الدريفليون الملكة وجنودها في مأدبة ضخمة وأكلوا وشربوا حتى الثمالة، عندها أمرت أولغا جنودها بتنفيذ الهجوم، حيث قتل 5000 من الدريفليين بالسيف. وبعد حمام الدم الذي أريق في العاصمة الدريفلية توسل الناجون من أجل الرحمة، وتعهدوا بدفع الجزية والولاء لكييف.
أبدت الأميرة بعض التساهل بعد أن قتلت الآلاف من الدريفليين، وطلبت أن يقوم الناجون بتقديم 3 الحمامات لها من كل بيت، بدلاً من دفع الجزية، وأوهمتهم أنها لا تريد أن تُثقل عليهم بالجزية كما فعل زوجها.
خرجت من العاصمة عندما حل الظلام، لتقف وجنودها على أطراف المدينة، وأمرت أن يُربط بقدم كل حمامة قطعة قماش طويلة بنهاية مشتعلة، ثم أطلقت سراح الحمامات التي عادت مسرعة إلى أعشاشها لتُضرم النار في منازل وأشجار الدريفليين.
كان من المستحيل إطفاء النيران ولم ينجُ منزل أو شجرة في المدينة، أما الذين حاولوا الهرب من الحرائق تصدى لهم جنود أولغا، ليقتلوا الكثير منهم ويأخدوا من تبقّى كعبيد. عندما احترقت مدينة الدريفليين وأبيدت عن بكرة أبيها انطفأت نيران الغضب في صدر الأميرة. دفع الدريفليين في النهاية، دفعوا بحياتهم ومنازلهم، دفعوها جزية ل”كييف روس”.
كيف لملكة قتلت قبيلة كاملة بهذه الوحشية أن تصبح قديسة؟
بعد 600 عام من وفاة أولجا، أي في عام 1547، أطلقت عليها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لقب قديسة، بينما قامت الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، والكنيسة الكاثوليكية اليونانية الروثينية، والكنيسة الكاثوليكية اليونانية الأوكرانية بإعطائها لقب ” Isapóstolos”، الذي يعني حرفياً “مساوٍ للرسل Equal to the Apostles.”.
كانت أول حاكم يعتنق المسيحية من “روس كييف”، ويعزى إليها الفضل في تقبل المسيحية وانتشارها في أوروبا الشرقية، ورغم أن ابنها مات وثنياً فإن حفيدها سار على خُطى جدته، وسعى إلى جعل مملكته كلها تعتنق المسيحية.