زنوبيا: الملكة المتمردة التي تحدت روما
ملكة تدمر القديمة التي غزت مصر، واستولت على مقاطعات رومانية، وكادت زنوبيا أن تحول مملكتها إلى إمبراطورية مساوية لروما.
تدمر:
امتازت مدينة تدمر في القرن الثالث ميلادي بالثروة والثقافة والقوة. تقع هذه العاصمة العالمية للمقاطعة الرومانية التي لا تزال تحمل الاسم نفسه على مقربة من الحدود الشرقية للإمبراطورية، موفرةً بموقعها الأجواء المناسبة لخطط الملكة زنوبيا الطموحة.
كانت المواجهة تتخمر لعقود من الزمن. وبحلول منتصف القرن الثالث الميلادي، كانت الإمبراطورية الرومانية غارقة في أزمة سياسية واقتصادية، وتخضع حدودها لهجوم مستمر، كما كان مركزها يكافح للحفاظ على تماسكه. دفعت الهزيمة الكارثية والقبض على الإمبراطور فاليريان من قبل الفرس في عام 260 م بالحكم الروماني إلى فوضى أكبر. و في أوروبا، بدأت إمبراطورية الغال المتمردة انفصالها عن روما. فقد كانت الإمبراطورية ضعيفة ومشتتة وتواجه التهديدات على جميع الجبهات. رأت زنوبيا التي كانت تراقب من الشرق فرصتها وعرفت أن لديها إمبراطورية لتكسبها.
اقرأ أيضاً على أعجمي: كليوباترا – امبراطورة من الشرق
كان لتدمر تاريخ من التعاون مع الحكم الروماني، وقد نتج عن ذلك العديد من الامتيازات للمملكة الصحراوية.
مدينة تدمر – التي تقع في وسط سورية الحديثة، حوالي 130 ميلاً إلى الشمال الشرقي من دمشق- ازدهرت منذ أن أصبحت تحت السيطرة الرومانية في القرن الأول ميلادي، فهي متوضعة على مفترق طرق بين عالم البحر الأبيض المتوسط الذي تحكمه روما والإمبراطوريات العظيمة في آسيا، وبذلك أصبحت مركز ذو أهمية استراتيجية واقتصادية ضخمة.
وبكونها محطة توقف لا بد منها للقوافل المتنقلة التي كانت تجتاز الصحاري، أعطت الثروة المتدفقة إلى تدمر حكامها وسيلة لتجميل مدينتهم ، وكذلك الثقة لتأكيد أنفسهم على المستوى الإقليمي.
عرفت تدمر مدينة الواحات أيضاً باسم ” لؤلؤة الصحراء “، فقد كانت تشتهر بمبانيها الرائعة، مثل قوس النصر ومسرحها المثير للإعجاب. وبحلول منتصف القرن الثالث، كانت الإمبراطورية التدمرية تتمتع بالفعل باستقلال مؤكد – وإن كانت في ذلك الوقت دولة تابعة للإمبراطورية الرومانية – ولكن زنوبيا سعت لتغيير ذلك.
زنوبيا تغزو مصر
على مر القرون, خضعت قصة حياة زنوبيا لقدر كبير من التكهنات العلمية. ويشير تاريخ أوغستان المنوع ولكن الغير موثوق به- وهو مجموعة رومانية قديمة من السير الذاتية – إلى أن زنوبيا ربطت نفسها مع البطالمة في مصر، بما في ذلك كليوباترا. كما يعتقد المؤرخون الشرقيون، مثل الطابري الفارسي في القرن التاسع، أن زنوبيا ليست يونانية ولكنها من أصل عربي. أما المؤرخون الحديثون فيتفقون على أن ملكة تدمر لم تنحدر من البطالمة، فهي على الأرجح تنحدر من عائلة تدمرية ذات نفوذ وسلطة, حيث تلقت فيها تعليماً جيداً.
لا يعرف سوى القليل عن نشأتها وتعليمها الدقيقين. واعتماداً على مصادر من الإمبراطورية الرومانية، كتب المؤرخ البريطاني في القرن الثامن عشر إدوارد غيبون وصفًا مفصلاً لها في كتابه الكلاسيكي المؤلف من ستة مجلدات “تاريخ انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية” قائلاً:
” قدمت أوروبا الحديثة العديد من النساء اللامعات اللواتي حافظن بمجد على أهمية الإمبراطورية… ولربما كانت زنوبيا هي الأنثى الوحيدة التي اخترقت عبقريتها المتفوقة قيود العبودية المفروضة على جنسها. . . فقد كانت زنوبيا تعتبر الأجمل والأكثر بطولية من بين بني جنسها. . . وقد تم تعزيز فهمها الرجولي وتقويته من خلال الدراسة. لم تكن تتكلم اللغة اللاتينية فحسب، بل كانت تتكلم اليونانية والسريانية واللغات المصرية بطلاقة مماثلة.”
تزوجت زنوبيا من أوديناثوس، وهو عربي- روماني وكان في ذلك الوقت حاكماً لتدمر . بدأ حكمه عام 263 م، دافع أوديناثوس بنجاح عن تدمر ضد الفرس، الذين كانوا واثقين بأنفسهم بعد هزيمتهم المهينة للإمبراطور فاليريان. مع بقائه موالياً لروما (ظاهريا ًعلى الأقل) تمكن أوديناثوس من اختراق صفوف الفرس وإرغامهم على التراجع إلى الأراضي الفارسية.
في البداية، ادعى أوديناثوس أنه كان يتصرف نيابة عن روما، ولكن سرعان ما أصبح واضحاً أنه يريد أن يثبت نفسه على أنه “ملك الشرق”. ونظراً إلى موقف روما الضعيف، لم يكن أمام الإمبراطور الجديد – ابن فاليريان، غاليانوس خيار سوى الاعتراف بمكانة أوديناثوس البارزة. الذي سبق وأن تميز بالعديد من الألقاب التي منحتها روما له، بما في ذلك المصحح و (حاكم الشرق بأكمله)، وتوج أوديناثوس أيضاً كـ “ملك الملوك” من قبل شعبه. وبدا أنه من الممكن أن تصبح تدمر عاصمة إمبراطورية جديدة، لكن ذلك لم يحدث .فقد تم إحباط طموحات أوديناثوس بمكيدة أُحيكت له في القصر في 267م . عند عودته من حملة ضد القوط في كابادوكيا (وسط تركيا)، حيث اغتاله أحد أقاربه في قصره.
حانت لحظة زنوبيا, حيث كان ابنها من أوديناثوس (وهب اللات) وريثاً للعهد, لكنه كان لا يزال طفلاً. وبذلك أعلنت زنوبيا نفسها حاكمة، وهذه الخطوة سمحت لها بفرض سيطرتها على المناطق الواقعة في الشرق، والتي كانت قد أُخذت مؤخرًا من قبل الفرس. أعدمت زنوبيا الأطراف المسؤولة عن موت زوجها، ثم وضعت حداً للوهم القائل بأن تدمر والمقاطعات التابعة لها كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية وسلطة إمبراطورها.
عرفت زنوبيا كيف تستغل لحظة ضعف الإمبراطورية الرومانية. فقد أقدمت زنوبيا على ازدراءالإمبراطور جالينوس وجنرالاته، الذين كانوا عاجزين عن منعها. وبقدوم الإمبراطور الروماني التالي، كلوديوس غوثيكوس، لم يكن لديه خيار سوى الاعتراف بسيادتها. وبذلك حققت زنوبيا هدفها في جعل تدمر مساوية لروما.
شيئاً فشيئاً، وبفضل دهائها ونصيحة مستشاريها الحكيمة، وسّعت زنوبيا حدودها مع روما. مع إبقاء الفرس في الشرق ضمن حدودهم، ضمت العديد من الدول المجاورة، بما في ذلك سورية بأكملها ومعظم الأناضول (تركيا الحديثة). في 269 م أرسلت قواتها إلى مصر واستولت على الإسكندرية. وبحلول عام 270 م ، كانت قد سيطرت على كل مصر وثروتها والحبوب التي تزود روما بها. بدت امبراطوريتها وكأنها لا يمكن إيقافها.
زنوبيا تقابل ندها
امبراطور روما التالي، لوسيوس دوميتيوس أوريليانوس، كان نوعاً مختلفاً من الخصوم. تولى الحكم في 270 م، ممتلكاً حنكة عسكرية اكتسبها من معاركه على حدود الامبراطورية. كانت ضراوته على الخطوط الأمامية أسطورية، فقد كتب عنها في مقدمة أغنية باللغة اللاتينية والتي تقول : “ألفاً، ألفاً، ألفاً قد قتل!”. خلال السنوات الأربع القصيرة من حكمه، فازهذا الجندي القوي بحرب أسلافه مع القوطيين، وصدّ غزو البرابرة في شمال إيطاليا، وأعاد الحكم الروماني في مقاطعات بلاد الغال وبريطانيا وإسبانيا.
جذبت قوة زنوبيا المتنامية والتحدي الصريح للسلطة الرومانية – خاصة بعد إعلان ابنها قيصراً في 271م- انتباه أوريليان. فالتحدي الذي أظهرته لم يظهره قائد ذكر يتمتع بنفس روح التمرد.
مما دفع أوريليان للأنتقام، واستعادة الأراضي من زنوبيا مع تقدم جحافله عبر آسيا الصغرى. بالقرب من أنطاكية ، قاوم جيش زنوبيا المكون من 70،000 لمدة، ولكن بعد هزيمتهم من قبل قوات أوريليان، تراجع الجنود المتبقون إلى تدمر، وجحافل أورليان تسير في أعقابهم حتى وصلوا إلى أسوار المدينة عام 272 م.
حاصرت قوات أوريليان تدمر، لكن زنوبيا كانت واثقة من أن رماتها وسلاح الفرسان يمكنهم صد هذا الحصار. وإذا لم ينجح ذلك، فربما يستسلم الرومان للجوع والمناخ الصحراوي الذي لا يرحم. ووفقاً لتاريخ أوغسطان، أرسلت الملكة رسالة مليئة بتحدي منقطع النظير: ” من زنوبيا، ملكة الشرق، إلى أوريليوس أوغسطس. . . أنت تطالب باستسلامي كما لو أنك لم تكن على علم بأنّ كليوباترا فضّلت أن تموت ملكة بدلاً من أن تبقى على قيد الحياة، مهما بلغ علو مرتبتها “.
مدهوشاً من هذا الصد ومن قبل امرأة، ضاعف أوريليان جهوده لأخذ المدينة. وفي حالة يأس، حاولت الملكة الهرب شرقاً إلى بلاد الفرس، لكن تم القبض عليها – حسب تاريخ أوغسطان – عندما وصلت إلى نهر الفرات. واستسلمت المدينة بعد ذلك بقليل.
إرث زنوبيا
ومثل ولادتها، فإن الظروف الدقيقة لوفاة زنوبيا غير مؤكدة. تقول بعض المصادر العربية إنها انتحرت لتفادي القبض عليها. كما تزعم مصادر رومانية أن أوريليان، لم يرغب بإعدام امرأة، فأحضرها أسيرة إلى روما. ومصادر أخرى تقول أنه تم قطع رأسها هناك. ويروي آخرون أنها تزوجت من عضو في مجلس الشيوخ الروماني وعاشت حياتها كربة منزل رومانية. وأيّاً كان مصيرها، فقد استحوذت زنوبيا على مخيلة أجيال من الكتاب، مسحورين بمآثر هذه الملكة القوية التي تحدت روما.
مترجم بتصرف عن: nationalgeographic للكاتب: David Hernández de la Fuente