الأرض البعيدة المليئة بالأرانب ونشوء اللغة الإسبانية
تحتل اللغة الإسبانية المرتبة الثانية بين اللغات الأكثر تحدثاً في العالم، لذلك، فإن التعرف على تاريخها ونشأتها من الأمور المهمة. لكن اللغات لا تولد في زمان ومكان محددين كما البشر. بل هي عملية من التكوين الحاصل خلال تفاعلات سلمية أو عنيفة بين الشعوب. لنتعرف على تاريخ نشوء اللغة الإسبانية من خلال قراءة سريعة لتاريخ تلك المنطقة.
إسبانيا في العصور القديمة
كانت شبه الجزيرة الإيبيرية مسرحاً للمستوطنات والغزوات والاحتلالات التي قامت بها شعوب من أصول مختلفة جداً. احتل الفينيقون والإغريق والقرطاجيون والرومان والقوط والعرب شبه الجزيرة في أزمنة متعاقبة. حولت هذه الظروف إسبانيا إلى تقاطع ثقافات لم تسمح لها خلال فترة طويلة من التاريخ أن تشكل هوية وطنية ولغة واحدة مسيطرة.
قبل وصول الحضارات الآتية من شرق المتوسط، استطونت ثلاث إثنيات شبه الجزيرة الإيبيرية، وهم الإيبيريون والتارتاسيون والباسكيون، ولكن دور هذه الشعوب كان ضئيلاً في تشكيل اللغة الإسبانية.
الفينيقيون في الأرض البعيدة المليئة بالأرانب
في سنة 1100 قبل الميلاد وصل الفينيقيون، الذين كانوا في الأساس تجاراً. لم يأتوا لكي يزرعوا ثقافةً، بل لكي يحصلوا على مكان مناسب لنشاطهم التجاري. ولذلك، لم يكن التأثير اللغوي للفينيقيين قوياً، ولا تأثيرهم الثقافي. لكن الفضل يعود لهم في تسمية تلك البقعة من الأرض: إي-شيفان-يم (إيشفانيم)، والذي يعني: الأرض “البعيدة” أو “المليئة بالأرانب”، وبعد التحول اللغوي أصبح الإسم “سبانيا” ولاحقاً “إسبانيا” خلال فترة الحكم الروماني.
أما المؤرخون اليونانيون، فقد استخدموا اسم “إيبيريا”، والسبب في ذلك يعود إلى أن المفردة الأكثر استخداماً من قبل السكان المحليين كانت “إيبير”، والتي تعني في لغتهم “النهر”. وهي تشير إلى نهر الإيبرو.
المستعمرات اليونانية وقرطاجة
وصل اليونانيون في القرن السابع قبل الميلاد، وأسسوا مستعمرات في شمال غرب شبه الجزيرة. ظلوا هناك لأكثر من قرن بقليل، لكن مساهمتهم المباشرة في تطور اللغة كانت محدودة. لكن الجدير بالذكر أن 3000 كلمة من أصل يوناني – والتي تستخدم إلى الآن في اللغة الإسبانية – قد دخلت (معظمها) إلى اللغة عن طريق اللغة اللاتينية التي أحضرها الرومان فيما بعد.
دمر القرطاجيون اليونانيين، الذين هُزموا بدورهم من قبل الرومان عندما كانوا يحاولون أن يَتَحَدّوا قوتهم العسكرية والاقتصادية. بقي القليل من الحضارة البونية (القرطاجية)، ومساهمتهم في اللغة شبه معدومة، رغم أنهم بقيوا لثلاثة قرون في شبه الجزيرة الإيبيرية.
إقرأ أيضاً: تاريخ الثورة الصناعية.
النسر الروماني يحمل معه ثقافة جديدة
ساهم القرطاجيون في جزب الفيالق الرومانية إلى تلك المنطقة، الذين حملوا معهم بصمة ثقافية استمرت طويلاً إلى المنطقة التي أعيد تسميتها إلى إسبانيا (Hispania). ووصلت مع تلك الفيالق لغة سهل لاسيو (اللغة اللاتينية)، والتي لها أكبر تأثير في تشكيل اللغة الإسبانية المعاصرة.
الجرمان والعرب ومساهمتهم في نشوء اللغة الإسبانية
بدأت الإمبراطورية الرومانية تضمحل منذ القرن الثالث فصاعداً، مما أعطى فرصة للقوط بأن ينزلوا إلى إسبانيا سنة 416 ميلادي. والقوط قبائل من أصول جرمانية، لكن تركتهم الثقافية كانت متواضعة، بينما تركة خلفائهم العرب كانت مهمة جداً، ليس فقط على صعيد العلوم، بل أيضاً على صعيد الأدب واللغة. تكفي الإشارة إلى أن 4000 كلمة من اللغة الإسبانية اليوم تعود إلى أصول عربية.
إعادة السيطرة على إسبانيا
بدأت مقاومة الممالك المسيحية في الشمال الإسباني منذ اللحظة التي وصل فيها العرب. أشعلت أسباب سياسية ودينية شعلة الوطنية الإسبانية، وبدأت إعادة السيطرة على البلاد من شمالها إلى جنوبها مصحوبة بإنتصارات كبيرة على عرب المور، الذين انتهى حكمهم بعد هزيمتهم في آخر حصونهم، غرناطة، على يد الملكة إيزابيل والملك فيرناندو عام 1492.
اللهجة القشتالية
ساهمت الجغرافيا والمقاومة المستمرة للتأثيرات الإسلامية على إبقاء لغات ممالك الشمال مختلفة عن لغة الأندلس. وأدت هذه الظروف إلى نشوء لهجات رومانسية* متنوعة التي تطورت عن اللاتينية العامية.
*نسبة إلى عائلة اللغات الرومانسية، وهي اللغات التي تطورت من اللاتينية إلى اللاتينية العامة ثم إلى ما يعرف اليوم بالفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية (لغة رومانيا الحالية) وبعض اللغات الصغرى الأخرى. والجدير بالذكر أن اللغة الإنكليزية قد تأثرت كثيراً باللغة اللاتينية القديمة واللغة الفرنسية، لكن الإنكليزية من أصل جرماني وليست لغة رومانسية (من أصل لاتيني).
لكن واحدة من تلك اللهجات سيطرت على الأخرى. إنها لهجة قشتالة، التي في بداية أمرها كانت تحت وصاية مملكة ليون، وتحول شيئاً فشيئاً إلى مملكة متسعة. وكان شعبها يتحدث لهجات متنوعة مشتقة من اللغة اللاتينية العامية، لأن التعريب لم يكن له تأثير يذكر أو كان شبه معدوم في تلك المناطق.
انتشرت اللهجة القشتالية مع الحملات العسكرية التي قامت بها الملكة إيزابيل والملك فيرناندو من شمال إسبانيا إلى جنوبها. وكانت النصوص الأولى التي كتبت فيها اللهجة القشتالية نصوصاً دينية وصلوات، لذلك ترانا نسمع كثيراً التعبير الذي يقول: إن “اللغة الإسبانية ولدت وهي تتحدث إلى الله.”
ألفونسو العاشر يضع شكلاً موحداً للهجة القشتالية
في سنة 1200 ميلادي، قام الملك ألفونسو العاشر، الملقب بالباحث القشتالي، مع مجموعة من الباحثين اللغوين بوضع شكل موحد ورسمي للغة الإسبانية بناءً على اللهجة القشتالية التي كان يتحدثها أهل مدينة توليدو، التي أخذها الباحثون مقراً لأعمالهم، وترجموا هناك المؤلفات العلمية والأدبية والحقوقية من اللاتينية واليونانية والعربية. وأصبح هذا الشكل الرسمي اللغة الرسمية للعمل الإداري ولكل الوثائق والمراسيم الرسمية.
اللغة الإسبانية القشتالية اليوم
انتشرت اللغة الإسبانية مع المستعمرين الإسبان في أمريكا الوسطى والجنوبية وبعض مناطق أفريقيا وآسيا.
ويتحدث اليوم أكثر من 500 مليون إنسان اللغة الإسبانية. بالإضافة إلى إسبانيا، فإن اللغة الإسبانية هي لغة رسمية في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي وكولومبيا وكوستا ريكا وكوبا وجمهورية الدومينيكان والإكادور والسلفادور وغواتيمالا والهندوراس والمكسيك ونيكاراغوا وباناما والباراغواي والبيرو والأراغواي وفينيزويلا وغينيا الاستوائية (أفريقيا). بالإضافة لكونها منتشرة على نحو واسع في بلدان أخرى ككندا والمغرب والفيليبين والولايات المتحدة الأميركية.
ترجم بتصرف عن مقال لـ Carlos Rodado Noriega من موقع جريدة El Tiempo الإسبانية.